إخوة ليلى

قليلة هي الفرص التي تُعرض فيها عيوب الآباء والأمهات أو لنقل الحديث عن ضعفهم الإنساني واختياراتهم التي قد تصبح مسيئة أو مؤذية لأبنائهم، لأسباب عديدة بعضها يتعلق بمكانتهم في المجتمع أو في الدين أو حتى في نفوس أبنائهم. قليل جداً من الأعمال التي تتناول هذه النماذج، مقابل النماذج الجيدة أو المضحية، ويميل المعظم للتركيز على تحسين العلاقة مع الآباء من خلال التقبل والتسامح وتصالح الأبناء مع حقيقة ضعف آبائهم وإنسانيتهم. ولا تجد في مساحة النقد إلا صراخ مراهقين مسيء لأهليهم، لذا تعجبني الأعمال التي تعرض هذه العلاقة بصور وأبعاد مختلفة كفيلم أخوة ليلى.

فالأب في هذا الفيلم يدور بين حقيقة ومجاز، حقيقته كإنسان متأثر بمحيطه الاجتماعي، ورازحاً تحت ثقل الفقر الذي حطم شخصيته وعمق الأنانية في نفسه، يحاول جاهداً رؤية الاحترام في عيون من يملكون السلطة والنفوذ، الذين يستغلونه غير آبهين لحاله وحال أبناءه. هذه الأنانية الممتزجة بالبخل التي منعته من مساعدة أبنائه لتحسين حالهم، وجعلته على استعداد لإهدار ما بخل به عنهم على أمل أن يتزلفه الآخرون. غير حقيقته تلك يعكس مجازاً السلطة المهيمنة على السياسة والمجتمع، والتي تمضي في دائرة مفرغة من الفساد، يُكتسب الاعتراف فيها ممن هم أعلى فساداً وأسبق سيطرة، وكل الطرق في سبيل ذلك مشروعة -الرشا والنفاق والظلم-. أما الأم.. فتظهر كامرأة معطلة مأزومة تكره نفسها في صورة ابنتها، ضعيفة يرميها التيار هنا وهناك باستسلام تام.

وإخوة ليلى تربطهم علاقة لا تفصمها الخلافات والصعوبات، لكن أثر الفقر واضح في تخبطهم، وأملهم في النجاة، وسلوكياتهم التي مهرت بختم الفقر الذي تتشابه آثاره باختلاف المكان والزمان. ففقراء إيران لا يختلفون كثيراً عن فقراء مصر على سبيل المثال. يلعن الإخوة الفقر وأسبابه ومنها هنا أبيهم الذي فرط وبخل مضحياً بأبناءه بدل التضحية لهم، لكن مشاعرهم تجاه أبوته لا تموت، بل يدافعون عنه أمام الإساءة وإن من أختهم.

أما ليلى.. فتمثل المرأة حين تصمد في وجه تقلبات الحياة، وتنمو حولها دائرة الأسرة والمجتمع. يعكس صمود ليلى في الفيلم صمود كثير من النساء في الواقع، تنهدم الحياة على رؤوس النساء فيُعدن تشييدها من جديد، لبنة لبنة حتى يستقيم بناؤها مرة أخرى. بعد كل حرب، وعقب كل أزمة تزيح النساء ركام الهزائم عن الطريق ليمر الباقين، يتحملن الألم ويقبلن الواقع كمن انتزع منه اختيار الرفض إلى الأبد. وهكذا كانت ليلى تفكر في مستقبل إخوتها، تشجع علي رضا أخيها المثالي الذي يضعف عند مواجهة اضطرابات الحياة، ترى فيه القدرة فتضع أمامه المسئولية، وترفض الخضوع لأنانية أبيها ورغباته دفاعا عنهم. يرسم الفيلم صورة ليلى الجميلة القوية المهزومة، ويلقي عليها ظلال نسوية غير ظاهرة إلا لمتفحص، لكنها في المجمل صورة صادقة عن مجتمعاتنا المهزومة.

يقف الخوف من النقد على المجتمعات الإسلامية دائماً كدرع صد أمام مثل هذه الأعمال، تستخدمه السلطة غالبا لتنفي جدوى النقد، تستغل في ذلك أفكار صناع هذه الأعمال التي لا توافق دين المجتمع وقيمه. لكن هذا الخوف لا يُستخدم من جانب السلطات فقط، إنما يمنع خروج الأسئلة الحقيقية من داخل عقول وقلوب المؤمنين كذلك. لكن ما نسبة هذا الوضع -الذي تمنع حمايته من السؤال والنقد على أمل التحسين- للإسلام؟ 

في المشهد الختامي يموت الأب على كرسيه بعد إفساد فرص أبنائه وفي وسط احتفال حفيدته بعيد مولدها، تدخل الفتيات متزينات بأثواب بيضاء ناصعة، أملائكة رحمة هن يكللن خروج روح الجد الذي كان يكره ولادتهن منتظراً الحفيد الذكر؟، أم ملائكة أمل يأخذن بيد علي رضا للحياة راقصاً على ألحانها بدل الانسحاب منها؟!

انتظار

على وقع أقدام الصاعدين والهابطين على سلالم المبنى القديم جلست تنتظره خلف باب البيت.. منذ متى وهي تنتظر يا ترى؟! ساعة؟ ساعتان؟.. لا! بل خمس سنوات كاملة، طالت حتى تبدلت عليها فيها وجوه الحياة!
لا تدري ما الذي دعاها لترك كرسي الانتظار الآن تحديدا لتتناول غداءها في شرفتها، تراقب العصافير الصغيرة تطير مسرعة من شجرة لشجرة حتى تصل لمستقرها وتهدأ مع حلول الغروب.. ولا تدري هل هي حركة العصافير الصغيرة المليئة بالحيوية هي التي حركت قلبها وأحيت فيه التوق للحياة، أم أنها سارت طويلا مع حبل الانتظار حتى وصلت لنهايته متجرعة أخر قطرات الصبر المر.. الذي لم يصبح جميلا أبدا!
هل الدافع هو ما يهم، أم الفعل ذاته؟!.. تساءلت قبل ذلك كثيرا. هل تنظر في الدوافع أم للعواقب.. هل تحاسب نفسها وتقيم غيرها على الفعل أم على مظنته؟! وهل كان انتظارها أملا في فعل قد يصدر وقد لا يصدر، أم كان أملا في جميل النية والقصد وراء الفعل الأول وليس انتظارا لأفعال جديدة؟!
أنهت طعامها مع أخر شعاع يصلها من الشمس الغاربة قبل سطوعها على بقعة مختلفة من هذا الكون، ناشرة الحركة والحياة.. ووقفت مستقبلة الشعاع المودع، تتشرب بجسدها دفئه المختلط بهواء المساء العليل.. وانتظرت!

الحب في الكوميديا

في إحدى جلساتنا مع أمي كانت تحدثنا فيها عن الزواج وكيف أن توقع المثالية فيه أمرٌ مؤذٍ لأن تحققها مستحيل، ودللت على الأمر بعلاقتها بأبي، فطبع قلة الكلام الذي منعه من التعبير عن مشاعره كان مرهقاً لأمي في بداية زواجهما، خصوصاً بعد خطبة استمرت أربع سنوات كاملة. تقول أنها قضت وقتاً طويلاً في بداية الزواج غير مرتاحة تفتقد ما تحتاجه كل أنثى من الإطراء وبعض الغزل، لكنها بعد تفكير فيما لدى أبي من ميزات قررت أن ما لديه أكثر أهمية مما يفتقد؛ فأبي رجلٌ حنون كريم وفي خدمة أهله، فماذا تريد المرأة أكثر من هذا؟!

ذكرني بكلام أمي هذا المسلسل الأمريكي الكوميدي The Bing Bang Theory، يقص المسلسل على المشاهدين حكايا عشر سنوات من حياة 6 أكاديمين علميين وشابة غير مثقفة لكنها بالتأكيد أذكى من الست الآخرين اجتماعياً، كيف تشكلت ونمت العلاقات بينهم، وكيف نمى الحب في وسط هذه الغرابة في الطباع.

لينارد الشخص الحساس الذي نشأ مع أمٍ عالمة نفس، تُخضع أبنائها لمعايير صارمة أملاً في أن يصلوا لمستقبل مثالي، ما أنتج -كما هو متوقع أن ينتج من أي شخص حساس- شخص يغلب لومه الذاتي أي صوت داخلي آخر، يتنازل للآخرين ويراعيهم أكثر مما يراعي نفسه، وهو ما جعله يتحمل رفقة شيلدون العبقري الذي يسلبه ذكاؤه أي حسٍ اجتماعي، ويتحمل تقلب بيني الجميلة غير المثقفة، والتي تزوجته على خلاف رأي الجميع أن من هي في مثل جمالها وظرفها ستتزوج بالتاكيد شخصاً أكثر وسامة أو غنىً من لينارد خلاف ما حصل، فما الذي تحتاجه فتاة عاشت تمردها كاملاً وجربت تقلبلات الحياة أكثر من رجل حنون مراعٍ تحبه وتأمن جانبه؟!

أما شيلدون العبقري المرهق لمن حوله لم يكن ليتخيل أحد أن هناك امرأة ستتحمله بل أن تتزوجه وتشاركه حياته، وهو ما حصل بزواجه من أيمي عالمة الأعصاب غريبة الطباع بدورها -نتيجة تنشئة أمها المتحكمة المتزمتة لها-، في أحد المشاهد الجميلة بعد زواجهما حين حاول شيلدون وضع جدول لحياتهما حتى يرضيها كزوج ردت بأنها لا تستطيع أن تحب غيره، فليس عليه القلق وليترك الحياة لتجري بتلقائية.

ثم هاوارد وبرناديت، كيف تحب الفتاة الذكية الناجحة شخصاً غريب الأطوار، نشأ معتمدا على أمه في كل جوانب حياته، لتحل هي محل أمه في معظم هذه الأدوار. هل أرضى جانبه الاعتمادي ميلها للتحكم في من حولها فاعتدلت كفة الميزان؟. وأخيرا راجيش الفتى الهندي المدلل الرومانسي والذي للمفارقة لم يجد حتى آخر حلقات المسلسل الحب ولم يستطع الزواج، رغم كونه الوحيد الساقط من فيلم رومانسي داخل هذا المسلسل الكوميدي.

هذه النماذج التي يقدمها المسلسل في قالب مضحك تعلمنا عن طبيعة الحياة واستمرارية الزواج والحب أكثر من أي مسلسل رومانسي. تخبرنا ألا مقاييس مثالية للألفة ولا قوانين للحب، وأن استمرار الحياة مرهون بطيب المعشر أكثر من تلبية كل رغباتنا من الطرف الآخر، وأن العلاقة الزوجية هدفها الاستمرارية مستعينة على ذلك بتكامل طباع وقدرات وعطاء ونقص كلا الزوجين، بعيداً عن -كليشيهات- الصراع وفرض السيطرة التي تملأ وسائل التواصل الاجتماعي. وتخبرنا فوق ذلك أن الحب يتغذى على الحياة، وإن لم يكن فسيأكل قلوب أصحابه كما يحدث في قصص الرومانسية التي ترسم صورة للبشر وتطلب منهم أن يلتزموها رهباناً في محراب العشق.

في ذكر الحب

اليوم الأول.. شعور غريب بالارتباك يتسلل إلى قلبك، لن تعرف من أين ولما أتى هذا الارتباك. ستحمله معك أياماً، تنام به في عقلك وتستيقظ به في خفايا قلبك..
اليوم الثاني.. نظرة واحدة تكفي حين تلمس ارتباكك لتجرك لحركات وردات فعل بلهاء غير مبررة، لكنها أخاذة في عين الآخر إن كان مثلك مرتبكاً!
اليوم الثالث.. هو/هي إذاً!
اليوم الرابع.. تدور ويدور.. يدور وتدور.. حلقات متداخلة ومتقاطعة من الافتتان والأمل والارتباك.
اليوم الخامس.. صورة وصوت يلازمانك، وخيالات المستقبل تملأ نفسك.
اليوم السادس.. شوق وتوق وبعض الخوف..
اليوم السابع.. خوف
اليوم السابع.. غيرة
اليوم الثامن.. ستشعر أنك لُعنت بلا فكاك.
اليوم التاسع.. استسلام لأمواج العشق الجارفة

اليوم العاشر.. يوم الفرقان!، ما بين وافر الحظ ميسر له الوصال ومأسوف عليه بُليَ بالفراق.

اليوم الحادي عشر.. لا شيء عن المتنعم بالوصل يُذكر.. أما شقاء المقطوع فلن يُقطع.
اليوم الثاني عشر.. نار تأكل القلب
اليوم الثالث عشر.. حسابات ترهق العقل
اليوم الرابع عشر.. أسفٌ على ما فات وما سيفوت من لحظات كانت قد تعاش!
اليوم الخامس عشر.. شوق
اليوم السادس عشر.. حزن
اليوم السابع عشر.. تسلّي
اليوم الثامن عشر.. يأس
اليوم التاسع عشر.. استقرار العشق في قاع القلب بلا حركة

اليوم العشرون.. نظرة واحدة تكفي!

رفقة الطباع

منذ عدة أيام تقدمت للالحتاق بدروس تحسين التواصل بالإنجليزية، كنت متحمسة وقلقة وأكثر ما أقلقني أني لا أجيد الاستفاضة في الحديث عموما، إلا إن سألني أحدهم عن شيء محدد لامس اهتماماً في نفسي وكان لدي ما أقوله عنه. مرت الأيام وحل موعد الدرس التجريبي لأفاجئ أن مدرب اللغة هو شاب صغير اسمه عمر، لكن المفاجأة ليست إلا في كونه يشبهني في الطبع!
يتكلم عمر سريعاً ليداري خجله، وأنا أتلعثم في الكلام محرجة كوني لا أجد إجابات عن أسئلته، لا بالإنجليزية وإنما بالعربية كذلك. رغم تطلعي لمدربة أو مدرب أكثر انطلاقاً وثقة، لكني تعاطفت مع عمر، تعاطفت معه لأني أعرف تماماً شعوره واختبرته ومازلت..

قد يكون الأمر أكثر من مجرد تعاطف، بل هو شعور بالانتماء. ولأني شخصية تعاني من شعورها الدائم بعدم الانتماء لأي مجموعة أو فكرة أو حتى مكان، فغالبا أشعر ببعض من الانتماء لما ولمن يشبهني. أحياناً أمر على صفحة ما على الفيسبوك وأشعر بالانتماء لكلمات صاحبها أو صاحبتها، الكلمات التي أعرف ما وراءها من مشاعر وفكر، وتحرك في قلبي الشعور بالتعاطف والود بلا أي صلة بيني وبين أصحابها.

يقول البعض أن الناس يبحثون عمن يكملهم ليحبوه، ويقول آخرون أن القلوب تهوى أشباهها، وأنا أميل لرأي هؤلاء الآخرين. لذا قررت أن أخوض مغامرة التغلب على الإحراج والخجل.. عندي وعند عمر وسأطلب منه أن يتمهل في كلامه وأن يسمح إحراجه لإحراجي أن يأخذ فرصته في الظهور.

اتصال.. مقطوع

منذ حوالي العشرة أيام أو يزيد أعاني من عدم القدرة على التواصل، أضغط على نفسي كي أستطيع التواصل مع من حولي، استهلك معظم هذا الضغط في التواصل مع أسرتي ولا يبقى منه شيء للتواصل الإلكتروني، أخجل من أصدقائي الكرماء اللطفاء من عدم قدرتي على الرد عليهم، أجهز أعذاري التي سأملأ بها رسائلي إليهم ثم تضيع الحروف في تيه النفس..

أحب المشاركة لكن أكره الشكوى، أحب أن يعذرني الأصدقاء لكنني أكره أن أنمط نفسي في نفسي وفي عيونهم، لا أحب تعريف نفسي بأحوالي الطارئة، أذكر فترة مرت كنت متشبثة فيها بحالة لم أستطع الخروج منها إلا بعد لأي ومناورات مع نفسي ومع الحياة، أضع هذه الحالة أمام عيني كلما شعرت بالضيق أو قلت قدرتي على التفاعل مع الحياة أضعها أمام عيني كعبرة لا أحب العودة لها ولا أرغب في نسيانها.. كل الفترات تمر وكل المشاعر تتغير وكل الطعوم تتناوب، فهذه طبيعة الحياة..

حين أفكر في الثابت الذي سأتشبث به ضمن بحر الحياة الهائج أجد رحمة الله وكرمه وجبره ووده وقوته وعزته وقدرته، فأجدني أستلذ الدعاء.. في الحقيقة أصبح الدعاء أحد أنشطتي المحببة في الحياة هذه الأيام، هذا هو التواصل الوحيد الخفيف على قلبي في غيابت جب العجز عن التواصل الذي أقبع فيه.. أتعلق بحبل الله الممدود وأعرف أنه سيوصلني لبقية حبال الحياة عاجلا أو آجلا..

منذ فترة كنت أتحدث عن عائلة أبي مع أحد الأصدقاء، أقول له رغم عيوبهم التي في جميع البشر إلا أن فيهم مسحة ربانية لا أعلم مصدرها، أذكر حديث جدتي عن جد أبي المتدين في بحر خلق جهلاء، وعم أبي الذي سافر إلى الرياض ليسجل القرآن لإذاعتها فتوفي ودفن هناك، وجدي الذي كان ملازما للمسجد ولكتاب ربه الذي أقسم عليه أن يدفن في مكة فأبر سبحانه قسمه وتوفي ودفن هناك، وأبي الذي كانت جدتي تحكي أنه التزم بالصلاة وحده فهو على حد قولها ممن يصدق عليهم المثل: “قال مالك متربي.. قال من عند ربي”.. رد عليّ وقتها ذاك الصديق أنها استجابة دعوة دعاها سلف لذريته فبقيت لهم..

لكني أحب أن أصدق طرف التفسير الآخر أنها بركة اتصالنا بسيدنا وحبيبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أحب أن أصدق أنها بركة أن نكون من ذريته.. هذه الفرضية التي حين علم بها أبي وأمي ردا بكل هدوء وبتوافق عجيب بينهما أن الاتصال يثبت بالعمل لا بالنسب وأغلقا الموضوع.. عجيب أمرهما، كم أحب إن تزوجت أن يكون التوافق بيني وبين زوجي كما كان بين أبي وأمي عليها رحمة الله، لا يغيب عني أبدا مشهد أبي في وداع أمي بعد أن كفنت يقول لها ثلاث وثلاوثون عاماً لم يجعلكي غضب ولا خصام تغادرين المنزل والآن تتركينا فجأة وبلا رجعة!

لكني أفضل التفكير دوماً في “الرجعة” الممكنة والمقدرة لكل مقطوع.

قصة الورق وقصة الكتب

نحكي اليوم عن كتابين أحدهما كبير الحجم يقع في حوالي 450 صفحة وهو قصة الورق من تأليف جوناثان بلوم وترجمة سلسة لطيفة للدكتور أحمد العدوي، والثاني دراسة صغيرة نسبياً تقع في حوالي 130 صفحة من تأليف إسلام دية وترجمة الدكتور أحمد محمود.

يحكي الأول قصة الورق كما في عنوانه منذ بدء صناعته هناك في الصين، ثم إعادة اكتشاف المسلمين له، والنقلة الثورية في تصنيعه وانتشار استخدامه، وما ارتبط به من صياغة مجتمعات إسلامية متعلمة. والنقلة الكبيرة في مختلف العلوم نتيجة انتشار الورق وسهولة التدوين، في الرياضيات والجغرافيا والعمارة وغيرها، ومن ثم انتقال الورق ثقافة وصناعة إلى أوروبا. وفي الكتاب الكثير من الأسئلة حول حركة صناعة الورق وانتشار العلم وارتباطها بالتجارة، وانتقال الريادة الحضارية بين العالم الإسلامي وأوروبا، واختراع الطباعة ودورها الهام في النهضة العلمية وتابعيتها لصناعة الورق. ومع الأسئلة امتلأت قصة الورق في الكتاب بالإجابات.

غلاف كتاب قصة الورق

أما دراسة إسلام دية ففيها الكثير من الأسئلة والقليل من الإجابات، منها على سبيل المثال لا الحصر؛ طبيعة السياقات والدوافع التي وجّهت عملية تحقيق ونشر الكتب، وتأثير المستشرقين في طبيعة الاختيار للكتب محل التحقيق والنشر، وعمليات التمويل والدعم التي لا تقوم حاليا حركة علمية دونها عكس ما كان قائماً قديماً على نظام الوقف الذي أتاح استقلالية أوسع، وأثر استقطاب علماء الأزهر للقيام على عمليات التصحيح في دمجهم داخل منظومة الدولة، والتوجيه الأيديولوجي لقراءة النصوص بدعوى التحقيق، وارتباط طرق النشر الجديدة بطرق التعلم المختلفة والقطع مع طرق الفهم والتدارس الأصيلة.

وما يربط الكتابين عندي أن الثاني يكمل حركة تأريخ الأول، من تتبع التاريخ الثقافي للكتب والعوامل المرتبطة به الاجتماعية منها والسياسية والاقتصادية، ودور هذه الحركة في صياغة العقول ورسم سبل التعلم في المجتمعات العربية والإسلامية. وإن كان الثاني يخاطب المتخصصين أكثر من الأول لكن أسئلته مفيدة للمهتمين.

قبل التفكير..

كثيرة هي النصائح والإرشادات على سبيل زيادة كفاءة التفكير.. لكن أول خطوة على طريق التفكير القويم دائماً غائبة عن أي وصفة أو علاج يصفه مخلصون أو بائعون لوهم التحسين.. ألا وهي احترام النفس!

وهذا درس لم أقرأه في كتاب ولا تعلمته على يد شيخٍ أو أستاذ.. بل أشربتنيه وإخوتي أمي، فقد كانت رحمها الله تبسط أمامنا الأفكار والمواضيع الكبيرة والصغيرة بدون خوف عجزنا عن الفهم، تسألنا رأينا وتستمع لنا، لا تهين أحداً منا ولا تعاقبه ضرباً كما تفعل معظم الأمهات -حتى أني أذكر المرة الوحيدة التي ضاقت بنا فيها وقامت لتضربنا حتى نتوقف عن الشجار والجدال-.. كانت تخبرنا أن الغش في الامتحانات نوع احتقار للنفس، فما الفائدة أن تُحَصِّل أعلى الدرجات وأنت لا تفرق عن الحمار -أعزكم الله- في فهم ما كتبته على ورقة الامتحان. وفوق ذلك لم تكن تجبرنا على رأيها ولا تحتكر الصواب، حتى أن نقاشاتنا كانت أحيانا تطول وتحتد في قضايا فكرية وحين يعجز أحدنا عن إقناع الآخر ننهي النقاش بشرب الشاي والتوقف فيه. وكانت تؤكد في كل وقت وحين أن العلاقات أي علاقات يجب أن تقوم على الاحترام، سواء كانت علاقة زوج بزوجه أو صديق بصديقه أو أستاذ بتلميذه..

كان لهذا الخلق قيمة مركزية في حياتنا الأسرية، ركزته في نفوسنا وعقولنا، وجعلت منا نحن الأربعة -أنا وإخوتي- أربعة نماذج مختلفة في الاختيارات وطرق التعاطي مع الحياة.. لكن قيمته الأساسية في رأيي انعكست في طبيعة مهارة التفكير لدينا. فقبل سنوات من قراءتي لكتاب الشيخ فريد الأنصاري الفريد -التوحيد والوساطة في التربية الدعوية- كنت أوقن ألا شيء ولا أحد يستحق أن يملك تذكرة المرور بلا تدقيق لعقلي، فأنا كنموذج لإنسانة مسلمة يدخل في تكويني الفكري والنفسي الكثير من العوامل، أملك ما أؤمن به ويشكل وجهة نظري في الحياة، لذا فأنا أمرر كل ما يعرض لي على ما أؤمن به وأرى إن كان يخدم الوصول لهدفي أو يعلي من شأن القيم التي يقرها ديني وثقافتي أم لا، وعلى هذا الأساس أقبل الفكرة وأؤيد الفعل أو أرفضهما.

هذا الشعور بالاحترام الذاتي، يعطينا القدرة لا على الحفاظ على استقلالية عقولنا وسلامة حاستنا النقدية فقط، إنما يجعلنا على المقياس الأعم نعرف كيف نتعامل مع الأفكار المستوردة الغريبة عنا حين تعرض لنا، بل ويمكننا من النفاذ لمركز تلك الأفكار ولبها فنستخلصه منها بدلا من الرقص على قشورها بلا نتيجة ترجى.. وهو ذاته الذي يجعل سيرنا في الحياة حراً يسهل توجيهه وفق مراد الله وقصده.. متحققين بالحرية من التبعية لغيره سبحانه، ومتمثلين لتوحيده الخالص!

وعلى النقيض من ذلك ماذا لو افتقد الواحد منا احترامه لنفسه وعقله وقيمه.. كيف سيملك ثقة النظر في كلام شيخ أو أستاذ أو مشهور ما يروج لقيمة في شكل فكرة مزينة ومنتقاة الأركان.. كيف ستصمد قيمه أمام تيار السيولة الجارف الذي يتخبط العالم كله بلا سقوط في فخي الإفراط أو التفريط والعجز عن التحقق ب “وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس..”، وكيف سيحفظ كرامته في علاقة يأبى أحد أطرافها إلا الجور على حق الآخر إلا بالانصياع للتقليل من قيمته أو بهدم العلاقة بلا أمل في إصلاح؟! أليس الأجدى والأنفع أن نتعلم ونعلم غيرنا قيمة احترام الذات؟!

صفحة بيضاء

هل الكتابة شرط الفكر؟ اسأل نفسي هذا السؤال يومياً، حين أشاهد الأصدقاء وغيرهم يكتبون ويشاركون هنا وهناك في حين تبقى صفحتي البيضاء خالية ولا أملك من الكلمات شيئاً أخطه فيها، رغم أن الفترة الماضية كنت أكتب في العمل بشكل سلس وتلقائي وفي موضوعات مختلفة ليست من اختياري، وهو ما كان يصعب علي سابقاً أو يستحيل!

وبالأمس حين كنت أقلب صفحات الأصدقاء وأتأمل كلماتهم، وجدت متعثراً مثلي يرد على لوم لطيف بانعدام كتابته على الفيسبوك بدعاءٍ أن يرد الله عليه الكلمات. وكأن دعاءه مواساة لكلماتي التي أتمنى أن يردها الله علي أيضاً. فالكتابة نوع اشتباك مع الحياة لا تعوضه صور أخرى منها، وقد كنت أمزح مع أحد الأصدقاء أنه يكفينا الكثير من النقود وكتاب نبهاء وخفيفي الظل لنغزو المجتمعات معرفياً.. كنت أقولها مازحة لكنها كلمة صادقة..

أحياناً كثيرة أشعر أن الانقطاع عن الكتابة على الملأ ليس إلا تعبيراً عن الشعور بالغربة وضعف الانتماء، أصدقاؤك الذين اعتدت الكتابة لهم منتظراً تفاعلاتهم ومتحفزاً لنقاشاتهم.. وقضاياك التي آمنت بها متحيناً كل فرصة للحديث عنها.. ومشاعرك التي كنت تطلق لها العنان بلا حساب لتنطق عنك.. وآمالك التي كنت تبنيها على أرض إيمانك بكل تفصيل فيها.. ووطنك الأرض التي تحملك أو كانت.. كلها بهتت ولم يعد للحديث عنها وفيها ولهم أي محفزٍ لكلماتك.. فتغيب وتبهت كما بهتت أسبابها.

وأحياناً أخر أفكر أن الكتابة استنطاق للحياة، وأن الإصرار عليها ليس إلا مقاومة لليأس أو الانسحاب منها.. وأن علينا أحياناً أن نسحب كلماتنا من قعر نفوسنا عنوة كمن يسحب ماء البئر طلبا للرواء.. وهو ما حاولت فعله أمام هذه الصفحة البيضاء أن أقاوم الانسحاب بالامتلاء.

الرابع عشر من أغسطس

عند السادسة صباحا يوم الرابع عشر من أغسطس عام 2013 وقفت في حيرة؛ كيف سأقنع أبي وأمي بأن يسمحوا لنا بالنزول إلى حيث المذبحة المتوقعة، ولم يطل تفكيري فحين خرجت من غرفتي لأرى ماذا يحدث في التلفاز كانا قد أوشكا على الانتهاء من ارتداء ملابسهما للنزول، وحينها لحقنا بهما أنا ومروة. كانت تلك المرة الأولى على الإطلاق التي تشارك فيها أمي في مظاهرة، فمنذ بدء أحداث ثورة يناير كان أبي رفيقنا أو كنا نذهب وحدنا في مسيرات الأمل في الحرية، لكنها لم تتردد في ذلك اليوم أو تفكر في المرة الوحيدة التي كان يعرف الجميع أن فرص الموت أعظم.

كان يوما مليئا بالدم كاد أبي وأمي ومروه يموتون وأنا في غفلة من التعامل مع الجراح والأدوية وأدوات الأطباء، لكنه لم يخلو من اللطف وحتى الضحك. أتعجب كثيرا كيف يمكن للبشر أن يضحكوا وملابسهم ملطخة بالدماء، كيف تغلب الأمومة كل مشاعر النساء فتظهر في لمحات لطيفة ومؤثرة في أحلك الأوقات، وكيف نبقى نحن الأبناء منفعلين بمشاعر ردود الأفعال. اتصلت يومها خالتي بأمي تطلب منها أن نعود، وكانت قد استعادت للتو بعض أنفاسها حين كادت تموت اختناقا من غاز قنابل اختصها بها واحد من جنود الظالمين حين كانت تختم صلاة الظهر، ردت أمي بانفعال على خالتي تطلب منها أن تخبر خالتي الكبرى التي فوضت وأبناؤها المجرم على قتل المخالفين لهم، قالت لها: “قولي لأختك إنها هي وولادها السبب في اللي بيحصل، وإننا هنموت بسببهم”، كانت أمي تبكي وهي تتحدث ولا أدري أكان هذا انفعالا أم أثر الاختناق بالغاز، لكننا نحن أنا ومروة كنا نضحك.

كنا نضحك حينها كأولاد مشاغبون ورطوا أمهم في موقف حرج وهربوا ووقفت هي مدافعة عنهم بانفعال، منتظرين التفاتتها بعصى التأديب. لكنها لم تلتفت ولم يلتفت أحد يومها لأن أعين الجميع كانت مليئة بالدم. كانت تلك المرة الأولى التي أرى فيها هذا العدد من أجساد الموتى متراصة في مشهد عجيب، يحمل بعضها على سيارة نقل ليستبدل الصف بصف آخر يحاولون نقلهم جميعا على أمل أن يصلوا لأهلهم بطريقة أو بأخرى. كان حظ أبي كبيرا حين نجى من رصاصة اخترقت جسد طبيب يقف جواره، ومروة حين نجت ببعض الخزر المعدني المغزوز في وجهها من سيل رصاص وخرطوش قوبلت به مع غيرها من الطيبين الذين حموها بأجسادهم الكريمة، أما أنا فحملت معي ذهول ذلك اليوم وغضبه حتى الرابع عشر من أغسطس 2019، حتى وقفنا على قبر أمي بعد دفنها لينقضي الذهول وينطفأ الغضب مخلفا رماد الحزن في قاع القلب.

كنت وأمي كقطبين متنافرين من شدة تشابههما، ففي حين كان الجميع يقول عني دوما أني أشبه أبي، وليس ذلك إلا لقلة الكلام وهدوء الظاهر فقط، لكني في الحقيقة أشبه أمي. مرجل المشاعر والتساؤلات والشعور بالمسئولية مع إدراك العجز، عدم القدرة على الصمت في وجه المخطيء والاندفاع دفاعا عن من نحب، والرغبة في الفهم، في كل ذلك لم أشبه إلا أمي. لكن تلك الرغبة في الفهم عجزت أن تبني بيني وبينها علاقة متصلة قوية حية حين حياتها، ليتآكل قلبي ندما بعد وفاتها عن يتمي الذي كان والذي سيكون.