قليلة هي الفرص التي تُعرض فيها عيوب الآباء والأمهات أو لنقل الحديث عن ضعفهم الإنساني واختياراتهم التي قد تصبح مسيئة أو مؤذية لأبنائهم، لأسباب عديدة بعضها يتعلق بمكانتهم في المجتمع أو في الدين أو حتى في نفوس أبنائهم. قليل جداً من الأعمال التي تتناول هذه النماذج، مقابل النماذج الجيدة أو المضحية، ويميل المعظم للتركيز على تحسين العلاقة مع الآباء من خلال التقبل والتسامح وتصالح الأبناء مع حقيقة ضعف آبائهم وإنسانيتهم. ولا تجد في مساحة النقد إلا صراخ مراهقين مسيء لأهليهم، لذا تعجبني الأعمال التي تعرض هذه العلاقة بصور وأبعاد مختلفة كفيلم أخوة ليلى.

فالأب في هذا الفيلم يدور بين حقيقة ومجاز، حقيقته كإنسان متأثر بمحيطه الاجتماعي، ورازحاً تحت ثقل الفقر الذي حطم شخصيته وعمق الأنانية في نفسه، يحاول جاهداً رؤية الاحترام في عيون من يملكون السلطة والنفوذ، الذين يستغلونه غير آبهين لحاله وحال أبناءه. هذه الأنانية الممتزجة بالبخل التي منعته من مساعدة أبنائه لتحسين حالهم، وجعلته على استعداد لإهدار ما بخل به عنهم على أمل أن يتزلفه الآخرون. غير حقيقته تلك يعكس مجازاً السلطة المهيمنة على السياسة والمجتمع، والتي تمضي في دائرة مفرغة من الفساد، يُكتسب الاعتراف فيها ممن هم أعلى فساداً وأسبق سيطرة، وكل الطرق في سبيل ذلك مشروعة -الرشا والنفاق والظلم-. أما الأم.. فتظهر كامرأة معطلة مأزومة تكره نفسها في صورة ابنتها، ضعيفة يرميها التيار هنا وهناك باستسلام تام.
وإخوة ليلى تربطهم علاقة لا تفصمها الخلافات والصعوبات، لكن أثر الفقر واضح في تخبطهم، وأملهم في النجاة، وسلوكياتهم التي مهرت بختم الفقر الذي تتشابه آثاره باختلاف المكان والزمان. ففقراء إيران لا يختلفون كثيراً عن فقراء مصر على سبيل المثال. يلعن الإخوة الفقر وأسبابه ومنها هنا أبيهم الذي فرط وبخل مضحياً بأبناءه بدل التضحية لهم، لكن مشاعرهم تجاه أبوته لا تموت، بل يدافعون عنه أمام الإساءة وإن من أختهم.
أما ليلى.. فتمثل المرأة حين تصمد في وجه تقلبات الحياة، وتنمو حولها دائرة الأسرة والمجتمع. يعكس صمود ليلى في الفيلم صمود كثير من النساء في الواقع، تنهدم الحياة على رؤوس النساء فيُعدن تشييدها من جديد، لبنة لبنة حتى يستقيم بناؤها مرة أخرى. بعد كل حرب، وعقب كل أزمة تزيح النساء ركام الهزائم عن الطريق ليمر الباقين، يتحملن الألم ويقبلن الواقع كمن انتزع منه اختيار الرفض إلى الأبد. وهكذا كانت ليلى تفكر في مستقبل إخوتها، تشجع علي رضا أخيها المثالي الذي يضعف عند مواجهة اضطرابات الحياة، ترى فيه القدرة فتضع أمامه المسئولية، وترفض الخضوع لأنانية أبيها ورغباته دفاعا عنهم. يرسم الفيلم صورة ليلى الجميلة القوية المهزومة، ويلقي عليها ظلال نسوية غير ظاهرة إلا لمتفحص، لكنها في المجمل صورة صادقة عن مجتمعاتنا المهزومة.
يقف الخوف من النقد على المجتمعات الإسلامية دائماً كدرع صد أمام مثل هذه الأعمال، تستخدمه السلطة غالبا لتنفي جدوى النقد، تستغل في ذلك أفكار صناع هذه الأعمال التي لا توافق دين المجتمع وقيمه. لكن هذا الخوف لا يُستخدم من جانب السلطات فقط، إنما يمنع خروج الأسئلة الحقيقية من داخل عقول وقلوب المؤمنين كذلك. لكن ما نسبة هذا الوضع -الذي تمنع حمايته من السؤال والنقد على أمل التحسين- للإسلام؟
في المشهد الختامي يموت الأب على كرسيه بعد إفساد فرص أبنائه وفي وسط احتفال حفيدته بعيد مولدها، تدخل الفتيات متزينات بأثواب بيضاء ناصعة، أملائكة رحمة هن يكللن خروج روح الجد الذي كان يكره ولادتهن منتظراً الحفيد الذكر؟، أم ملائكة أمل يأخذن بيد علي رضا للحياة راقصاً على ألحانها بدل الانسحاب منها؟!